الجمعة، ٢٩ ذو الحجة ١٤٢٧ هـ

مجموعة من الباحثين/التوسل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
أخي الكريم: مسألة التوسل من المسائل التي كثر حولها النقاش، والذي نود الإشارة إليه أن النقاش حتى يكون مثمرا بنَّاء لا بد أن يحكمه المنهج العلمي الصحيح، مجردا من العصبية واتباع الهوى، وأن يتجرد الجميع من حظوظ النفس، وأن يكون الهدف هو معرفة الحق واتباعه، دون تعصب لرأي أو مذهب، وأن يسعنا ما وسع أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد اختلفوا ورسول الله بين أظهرهم، ولكن القلوب كانت مملوءة بالحب ليس فيها شحناء أو بغضاء، فاختلاف القلوب هو القاصمة نسأل الله السلامة والعافية.

وما ذهب إليه الأستاذ حسن البنا - رحمه الله- أن التوسل من الأمور الخِلافية بين الأئمة، وأنه خِلاف في كيفية الدعاء، وليس من مسائل العَقيدة.
هذا الأمر لم يبتدع فيه الرجل ولم يأت فيه بجديد، بل هو حقيقة قررها العلماء والفقهاء على مر العصور وليس رأيا خاصا به، وممن قال بهذا الإمام محمد بن عبد الوهاب في فتاويه، والشيخ الألباني –رحمه الله – في مقدمته لشرح العقيدة الطحاوية، ولأن موضوع التوسُّل فقهيٌّ لا عَقدي، تكلَّمت عنه جميع كتب المذاهب الفقهية، على اختلاف أحكامها فيه، ودخل الموسوعات الفقهية، باعتباره من المسائل الفرعيّة العملية، التي تدخل في إطار البحث الفقهي.

وإليك رد فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي: في كتابه القيم (الإخوان المسلمون سبعون عاما في الدعوة والتربية والجهاد )
قضية التوسُّل بالرسول ـ صلّى الله عليه وسلم ـ والأنبياء، والملائكة والصالحين من عباد الله، فقد ذكر الأستاذ البَنّا: أن هذا من الأمور الخِلافية بين الأئمة، وأنه خِلاف في كيفية الدعاء، وليس من مسائل العَقيدة.
وقد أنكر إخوانُنا السَّلفيّون على الأستاذ البَنّا هذا القول، واشتدَّ نَكيرهم عليه، وعلا صوتُهم في معارَضته والتشنيع على قائله. ولا أدري لِمَ هذا كله؟ ولم يقُل الرجل شيئًا يستوجِب الطَّعنَ أو التشنيع.
أوّلاً: لأنّ الأمر خِلافي بالفعل، ومَن قرأ كتب المذاهب المَتبوعة من الحنفيّة والمالكية والشافعية بل حتى الحنابلة: وجدَ هذا واضحًا، فالكثيرون أجازوا التوسُّل بالرّسول وبالصالحين من عِباد الله. وهناك مَن كَرَّهَ التوسّل، وهناك مَن منعه.
ولكُلِّ فريق من هؤلاء أدلّته أو شُبُهاته ـ على الأقل ـ في تأييد ما ذهب إليه، وللمُخالفين رُدودُهم عليه، كما هو الشأن في المسائل الخِلافيّة.
وهناك دليل قوِيّ لمن قالوا بالتوسل، وهو حديث عثمان بن حُنيف، وقد صحَّحه الشيخ الألباني، وهو من منكِري التوسُّل، وإن كان قد وجَّهه وجهةً أخرى، هي في نظري أقوَى وأحرَى. وهو هذا الحديث:
أخرج أحمد وغيره بسند صحيح عن عثمان بن حُنَيْف أن رجلاً ضَرير البصر أتَى النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: ادْعُ الله أن يُعافيَني. قال: إن شئتَ دعوتُ لك، وإن شئتَ أخَّرتَ ذاك، فهو خير، (وفي رواية: وإن شئتَ صبرتَ فهو خيرٌ لك)، فقال:ادْعُه. فأمَره أن يتوضَّأ، فيُحسِن وضوءه، فيصلِّي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك، وأتوجّه إليك بنبيِّك محمد نبي الرحمة، يا محمد إنِّي توجَّهت بكَ إلى ربِّي في حاجتي هذه، فتَقضِي لي، اللَّهم فشفِّعْه فِيّ "وشَفِّعني فيه". قال: ففعل الرجل، فبَرَأ )

تخريج الحديث:
وقد نقل الدكتور القرضاوي تخريج الألباني - رحمه الله – لهذا الحديث وملخصه ما يلي:
الحديث رواه الترمذي (4/271ـ282بشرح التُّحفة) وقال عنه (حديث صحيح غريب)، ورواه الحاكم (1/519) وقال: (صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي) وأخرجه أحمد في مسنده، والطبراني في الكبير، وعقب الشيخ الألباني قائلا: الحديث إسناده جيد لا شبهة فيه.
ومن أراد المزيد فليراجع التوسل للألباني ص 67،68).

تعقيب القرضاوي على أن التوسل ليس من مسائل العقيدة:
أمّا أنَّ التوسُّل من مسائل العَمل، وليس من مسائل العقيدة، فهذا توجيه صحيح؛ لأنّه خِلاف في كَيْفية الدُّعاء، ما دام المَدعو والمتوسَّل إليه هو اللهُ تبارك وتعالى.

بَقِي البحث في مشروعيته هل يقال: أتوسُّل إليك بنبيِّك محمد، أو بملائكتك المقرّبين أو بعبادك الصالحين أو لا يجوز؟ فهذا بحْث فقهي، وليس ببحث عقدي.
وليس الإمام البنا هو أولَ مَن قال بذلك، بل قال به الإمام محمد بن عبد الوهاب نفسه، كما نُقل في مجموع فتاويه.
حيث قال في المسألة العاشرة (قولهم في الاستسقاء: لا بأسَ بالتوسُّل بالصالحين، وقول أحمد يُتوسَّل بالنبي خاصّة، مع قولهم: إنه لا يُستغاث بمخلوق، فالفَرق ظاهر جدًّا"، وليس الكلام ممّا نحن فيه، فكون بعض يرخِّص في التوسُّل بالصالحين، وبعضهم يخصُّه بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وأكثر العلماء يَنهَى عن ذلك ويكرهُه، فهذه المسألة من مسائل الفقه. ولو كان الصّواب عندنا قول الجمهور أنّه مكروه، فلا نُنكر على مَن فعلَه) (مجموعة فتاوى محمد بن عبد الوهاب ص 68/69 ).
فقد تضمَّن كلام الشيخ أن التوسُّل بالصالحين، أو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو موضِع خلاف بين العلماء، وإنْ هو صَوَّب قول الجمهور أنه مَكروه، وأن هذه المسألة من مسائِل الفقه. وهذا عينُ ما قرَّره البَنّا، فلا وجهَ للإنكار عليه.
وقال به المحدِّث السلفي الشهير الشيخ ناصر الدين الألباني في مقدّمته لشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العِزّ الحنفي، فقد تحدّث عن سبع مسائل هامّة، قال: كلها في العقيدة إلا الأخيرة منها. (انظر: مقدمة شرح الطحاوية ص 55 طبعة المكتب الإسلامي) يعني بالأخيرة: ما قاله شارح الطّحاوِيّة من كراهِية التوسُّل بحقّ الأنبياء وجاهِهم، تبعًا لإمامه أبي حنيفة.
ولأن موضوع التوسُّل فقهيٌّ لا عَقدي، تكلَّمت عنه جميع كتب المذاهب الفقهية، على اختلاف أحكامها فيه، ودخل الموسوعات الفقهية، باعتباره من المسائل الفرعيّة العملية، التي تدخل في إطار البحث الفقهي.
وهناك كثيرون من المستقِلّين عن المذاهب قالوا بإجازة التوسُّل، منهم الإمام الشوكاني ـ وهو سَلَفِيٌّ معروف ـ في كتابه (تحفة الذاكرين) شرح (الحِصن الحصين). وهناك غيره من القُدامَى والمُحدَثين. ومنهم مَن أجاز التوسُّل بالنبيِّ وحده، ولم يُجِز التوسُّل بغيره من الأنبياء والصالحين، كما هو رأي الإمام عزّ الدين ابن عبد السلام.
والخلاف في المسألة ظاهر. يُمكنك أن تراجِعه في بحث (التوسُّل) في الموسوعة الفقهيّة الكويتيّة في الجزء الرابع عشر. وبهذا يتضح لنا سلامة ما قاله الشيخ البَنّا بميزان العلم والتحقيق.
وأنا شخصيًّا أميل إلى ترجيح عدم التوسُّل بذات النبي وبالصّالحين.
وأتبنَّى رأي شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك، لعدة أمور:
الأول:أن أدِلّة المنع ـ أعني منعَ التوسل بذات النبي وذواتِ الصالحين ـ أرجحُ في الميزان العلمي. وخصوصًا أن باب الله تعالى مفتوح لكل خَلقه، وليس عليه حاجب ولا بَوّاب، مثل أبواب الملوك والأمراء. حتى العُصاة فتح الله ـ تعالى ـ لهم أبواب رحمتِه، ونسبَهم إلى ذاته، فقال تعالى: (قُلْ يَا عِبادِيَ الذِينَ أسْرَفُوا عَلَى أنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) (الزمر:53 ).
والثاني:أنّ إجازة التوسُّل قد تكون ذَريعةً إلى دُعاء غير الله تعالى، والاستغاثة به، وكثير من الناس يخلِط بين الأمرين، فسَدُّ الذّريعة بالنّظر إلى العوام أوْلَى.
والثالث:أن المنهج الذي أخذْتُه وسِرْت عليه في التعليم والدَّعوة والفتوى: أنَّنا إذا استطعنا أن نتعبَّد لله ـ تعالى ـ بالأمر المتَّفَق عليه فلا داعيَ لأنْ ندخل في الأمر المختلَف فيه.
وعلى هذا الأساس لا أُفَضِّل التعبُّد بصلاة التّسابيحِ؛ لأنَّ في الصلوات الأخرى المتَّفق عليها، والتي تواتَر عن رسول الله التعبُّد بها ـ مَا يُغني عنها.
ولكني لا أؤثِّم مَن أدّاه اجتهادُه إلى جواز التوسُّل، أو جواز التعبّد بصلاة التَّسابيح ونحوها. ولا أُنكر عليه إلا من باب الإرشاد إلى الأرجح والأفضل؛ إذْ لا إنكار في المسائل الخلافيّة، كما هو معلوم.
وشيخ الإسلام ابن تيمية وإن أنكَر التوسُّل بالذات، لم يشتَدّ في نَكيرِه إلى حدِّ التكفير أو التأثيم، كما يفعل بعض مَن يدَّعون الانتساب إلى مدرستِه. وقد قال في "فتاويه" بعد أن ذكر الخلاف في المسألة: (ولم يقل أحدٌ: إنَّ مَن قال بالقول الأول فقد كَفَر. ولا وجهَ لتكْفيره، فإن هذه مسألة خَفِيّة ليسَتْ أدلّتُها جَلِيّة ظاهرة، والكفر إنما يكون بإنكار ما عُلِمَ من الدين بالضرورة، أو بإنكار الأحكام المُتواتِرة والمُجمَع عليها ونحو ذلك.. بل المُكَفّر بمثل هذه الأمور يستحقّ من تغليظ العُقوبة والتعزيز ما يستحقُّ أمثاله من المُفتَرِين على الدين، لا سيما مع قول النبي: (أيُّما رجلٍ قال لأخيهِ: يا كافِر فقد باءَ بِها أحدُهما) (مجموع فتاوى شيخ الإسلام 1/106، والحديث متفق عليه عن ابن عمر.)
يرى الكثيرون: أن الحديث يدلُّ على جواز التوسُّل في الدعاء بِجاه النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو غيره من الصالحين؛ إذ فيه أن النبي ـ صلّى الله عليه وسلم ـ علَّم الأعمى أن يتوسَّل به في دعائه، وقد فعل الأعمى فعاد بصيرًا.
أما الشيخ الألباني فقال:
وأمّا نحن نرى أن هذا الحديث لا حُجّة لهم فيه على التوسُّل المختلَف فيه، وهو التوسُّل بالذات، لأن توسُّل الأعمى إنّما كان بدعائه.
والأدلّة على ما نقول من الحديث نفسِه كثيرة، وقد فصَّلها في كتابه (التوسُّل وأنواعه وأحكامه) فليُرجع إليه. انتهى بتصرف يسير
والله أعلم.

ليست هناك تعليقات: